لا أشعر بالرغبة في الكتابة ..
لكنني أشعرُ برغبةٍ في الحديث..مع الماء, الشجر, ونسائم الهواء العليلة
أشعرُ برغبةٍ في الهروب, تحت ظلّ شجرةٍ كبيرة أستلقي, أراقبُ السماء, الطيور, والسّحب ..وأتخيّل
كم شكلًا للحياة خلف هذه السحب؟ كم زهرةً ترقبها مثلي ؟ من ينظرُ إليها الآن معي ؟ كيف تمسكُ هذه السحب قطراتِ الماء, كيف تسكبهُ فوقنا ؟ قطرة قطرة, غيثًا وسيلاً ونهرًا ..
أحوّل نظري لأغصان الشجرة الكبيرة, هل تشعرُ بالملل لأنها في ذاتِ المكان منذُ ولادتها ؟ هل تتملكها الرغبةُ يومًا في أن تستطيع المشي, أو الطيران ؟ كيف سنتقبل نحنُ البشر منظر شجرةٍ تمشي ؟ أو تطير؟ مخيف؟ مضحك ؟ طريف ولطيف؟
لكنني أتذكرُ, أنها الشجرة..رغم بقائها في مكان واحد..إلا أنها تشهدُ الكثير من الحكايا ..
حكايا الحب, الانفصال, الأطفال الذين يختبؤون ورائها ويحتضنون جذعها ويلعبون, العجوز الحكيم الذي يتأمل الماشي والراكب تحتها, الأصدقاء السعداء الذين خرجوا في نزهة تحت ظلّها, الرجل الحزين الذي استندَ على جذعها ليستريح من همّه قليلًا, ربما يغني, ربما يتمتم بألحانِ أغنية لم يحفظ كلماتها جيّدًا, ربما يرتلّ القرآن, العائلة اللطيفة الذين يضحكون عندها ويشوون الدجاج, اللحم, البطاطس, الشاي على الجمر ..العصافير التي تبني عشها على أغصانها, النملة التي تتسلقها بكلّ قوّتها ..هل تتسلقها النملة أم تمشي عليها؟, الحشرات التي تسكنُ تحت لحائها ,راكبُ الدراجة العابر, الخريفُ بسقوطه والشتاء بجفافه والربيعُ بازدهاره والصيف بعنفوانه
هل تفهم الأشجار ما لا نفهمه نحن؟
هل تدركُ مشاعرنا المُخبأة في قسماتِ وجهنا, في بؤراتِ أعيننا ؟
أشاهدُ سربًا من الطيور..يطير, وأتأملُ في أين تكون وجهته ؟ كيف هو شعور القدرةِ على الطيران ؟ هل تشعرُ الطيور أنها مميزة ؟ أم أنها اعتادت نعمة الطيران حتى ألفتها شيئًا عاديًا, بديهيًا ..تمامًا مثلما اعتدنا المشي..هل ترانا الطيور مثلما نرى نحن الزواحف ؟ هل تشعرُ حيال عدم قدرتنا على الطيران مثلما نشعرُ نحن حيال عدم قدرة الثعبان على المشي ؟
أرفعُ يدي للسماء, أحاولُ التقاط سحابة..وربما بضعة طيور معها
تملأ يدي المشهد كلّه, وللحظةٍ أدركُ أن يدي تمسكُ السماء ..وللحظات أنظرُ إلى يدي
هذه اليد, الآلة الفريدة..الضعيفة القوية..كيف على صغرها تصنعُ أجسامًا كالجبال..ترسمُ ألوانًا شتّى في الحياة..تصنعُ طريقًا, تهدمُ طريقًا, تُحيي عقولاً, وتُميتُ أخرى .. باليدِ هذه آلافُ الكتبِ ظهرت, وباليدِ هذه طبطبتِ الأمّ والأبُ على صغيرهما, و الحبيبُ على حبيبته, والطفلُ على قطته, باليدِ هذه صنعَ الطبّاخ الوجبة اللذيذة, و هندس المهندسُ الجهاز العجيب, ورسم الرسام, ونجر النجّار, وكتب القاضي, وحاكتِ الحائكة
ما معنى أن يكون لك يدٌ بلا عقل ؟!
أقبض يدي ثم أفتحها, أطلقُ السماء, وأُعيد يدي للأرض
الوقتُ يمضي..في دنيانا هذه, الوقتُ ينتهي ..يومًا ما..في عالمٍ آخر، سيكون لهذا الوقت أدنى قيمة..سيمضي دائمًا, طويلًا ..أبدًا..دون أن ينتهي ..
أعودُ للمنزل, أرتطمُ بالواقعِ مرّة أخرى, أشتاقُ لتلك الساعة الفارغةِ إلا من إطلاقِ البصر, والفكر.
﴿قُل هُوَ الَّذي أَنشَأَكُم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ قَليلًا ما تَشكُرونَ﴾ [الملك: ٢٣]
محرّم 1/1/1444