“يبقى المرءُ صغيرًا ما دامت أمّه على قيدِ الحياة،،فإذا ماتت أمّه، شاخَ فجأة !”

كلّ ما أعرفهُ الآن، هو أنّه زارني شعورٌ عارم بأن أكتب هنا

أردتُ أن أكتب لنفسي، لأطفالي، لأمي

زارني هذا الشعور بقوّة بعد وفاة عمّتي ذات القلب النقي الطيب الطاهر

وزارني أيضًا بعد وفاةِ جدّتي الحبيبة الصديقة الحنونة

وأتيتُ هنا، كتبتُ بضعةَ أسطر.. ثمّ توقفت، لا أدري لمَ

لربما خشيتُ أن لا أكتب حزني جيّدًا؟ لربما شعرتُ أن الحزنَ أكبرُ من أن أكتبه، أو أتكلم عنه

لكنني الآن أريدُ أن أكتبَ عن حزني وفقط، بأي شكل، وبأيّ حجم

أريدُ أن أسردَ ما حدث، أن أكتب كلّ شيء.. كلّ شيء

بدايةً من نومي عند قدميها في غرفةِ الطواريء، وجهها الشاحبُ ما زالَ عالقًا في ذهني، ألمها الذي صبرت عليهِ كثيرًا

احتياجها الشديد للنوم وعدم قدرتها عليه للدرجةِ التي جعلتها تطلبُ منوّمًا..

ومع هذا، تُخبرني بكلّ حنيّة : نامي يا بنتي حتى أنتِ ما نمتِ

وضعتُ رأسي على مخدةٍ صغيرة على قدميها

ونمتُ نومًا خفيفًا

لماذاتكونُ طواريء المستشفيات بهذا السوء تمامًا ؟!

كانت تحتاجُ احتياجًا ملحًّا إلى سريرٍ مريح، كان سريرُ الطواريء أقلّ من أن يرتقيَ إلى سرير، قاسٍ تمامًا، لا يُمكن تعديله، ولا يوجد أيّ مخدّاتٍ أو بطانياتٍ إضافية حتى عند طلبنا

لماذا؟!

صحوتُ على صوت أبي وأخي لأذهب، ودعتها..دعت لي بأن يحفظني الله، استودعتها الله

هل حضنتها بما يكفي؟ هل قبلتُ رأسها ويديها؟

في الليلةِ الثانية، سجدتُ سجدةً طويلة، لم أكن قادرة أن أسجد بمثلِ طولها من سنوات، دعوتُ دعاءً شعرته يخرجُ من صميم صميم قلبي

وبكيت

قبل تعبها وألمها رحمها الله، كانت تُعدّ لحفلةِ ابنة أخيها ابنتها بالرضاعة ( ابنة عمتي رحمها الله) ، كانت حريصةً أن تكونَ حفلةً كاملة تامة، لا ينقصها شيء

ما زلتُ أراها في ذاكرتي تقلّبُ هنا وهناك، بحثًا عن الزفاتِ المناسبة وأذكرُ رحمها الله حرصها الشديد أن يكونَ كل شيء بدون موسيقى، بحثها عن الضيافات الممتازة، القاعات، الفساتين، تسريحات الشعر، الكيك، ضيافة الطاولات، ضيافة بعد العشاء، الوصيفة

جهّزت كلّ شيء رحمها الله بثيم ورد الياسمين وكانت دقيقةً جدًا في تفاصيل التفاصيل..

جاءَ موعدُ الحفلةِ وهيَ في البنج،

حاولتُ جهدي ومن معي أن تتمّ الفرحةُ كما تمنت رحمها الله

لم أزرها ليومين لأنها كانت على البنج، ولأنني انشغلتُ بترتيباتِ الملكة وبكتب الكتاب ..لكننا صورنا كلّ شيء

ذهبتُ في اليوم التالي بعد الحفلة

ما زالت على البنج، تمنيتُ أن أحضنها، أن أتكلم معها بصوتٍ عالٍ

لكنّ الدكتور منعَ الحديث.

أمسكتُ بيدها من فوق الغطاء، دعوتُ لها..لم أتمالك دموعي..استودعتها الله، أخبرتها أنني بإذن الله سأراها بعد أسبوع ونُريها كلّ أحداثِ الملكة

وخرجتُ أبكي

كنتُ أشعرُ في داخلي بشيءٍ مقبوض، ربما لأنني شاهدتُ مشهد ما قبل الموت هذا في حبيبتي جدتي رحمها الله قبل أيامها الأخيرة، لكنني كنتُ أدفعُ هذا الشعور، وأستعيذُ بالله منه، وأطمئنُ نفسي بأنها ستعود بإذن الله ، وستكون هذه الأيام ذكرياتٍ لا نرجو عودتها أبدًا

لكنها لم تعُد..

في فجرِ اليوم التالي، أتاني الخبرُ الحزين

أصبح قلبي ثقيلاً جدًا جدًا للدرجةِ التي لم تحملني ساقاي حينها

كانَ البكاءُ يخرجُ مني بآهاتٍ موجعة خافتة، وكنتُ أنادي بكلّ الكسرِ الذي شعرتُ به : يا الله

في الساعة العاشرة تقريبًا خرجنا لغسلها رحمها الله

خرجتُ للشارع، كانَ الجوّ لطيفًا، الطريقُ للمغسلةِ تحفّهُ الأشجار، كانت أصواتُ العصافير والحمام تملأُ الصمت وكأنها تغني أغنية الحزن لنا، أو تبكي معنا، أو تُغني فرحًا لانطلاق روح أمي في سمائها

الشوارع تمشي، الناسُ يتحركون، لا أحدَ منهم يعلمُ أنني فقدتُ أمي

غسلتُها، أنا وأختي وربا

كانت في فجأةٍ قبل أكثر من شهرين رحمها الله وصّت بمن يغسلها عند موتها، استغربتُ كلامها كثيرًا وقتها وانقبض قلبي منه لكنني رددتُ هذا الشعور ودعوت الله لها بطيلة العمر

غسلناها بالكافور، السدر،المسك

دهنّا جسمها الطيّب بالطيب، جدّلنا شعرها

قبلتها كثيرًا، ولم أشبع

حضنتها كثيرًا ولم أرتوِ

كلمتها، أخبرتها بأشياء كثيرة في نفسي كنتُ أنتظرُ استيقاظها من البنجِ لأخبرها عنها

دعوتُ لها

وبكيت

كانَ الوقوفُ صعبًا والجلوسُ أصعب، والمشيُ كذلك..

سلّم الجميعُ عليها

صلينا عليها

وخرجنا، كان هناك من يُسندني وقتها، ربا؟ آلاء؟ وجدان ؟ لا أذكر

كلّ ما أذكره أن خطواتي كانت ثقيلة جدًا، أنني بالكادِ أحملُ نفسي، وبالكادِ أرى ما أمامي من دموعي

صعدنا للسيارة، ذهبنا للبيتِ لنرتاح وليبدأ العزاء في بيت خالي في العصر

كنتُ أريدُ أن أنفرد بحزني، كنتُ أريدُ أن أجلس وحدي دون أن أقابل أحدًا أو أكلّم أحدًا

كان العزاءُ عزاءً؛ دعواتُ الناس، وجودهم حولنا ومعنا اهتمامهم بنا في الوقتِ الذي ذُهلنا فيه عن أنفسنا.. بكائهم معنا

كلّ هذه الأمور جعلتني أتفكرُ في حكمةِ الله بتشريع العزاء

في اليوم الرابع كانت رحلتي فجرًا لبيت أهلي

دخلت البيت، أمي تملأُ المكان.. رأيتها على الكنب تخططُ للحفلة، في المطبخ تُعدّ فطائر الزعتر..عند طاولة الفطور

مع القرآن تقرأ وردها

على الجوال تكلّم أقاربها وجاراتها.. أو تصوّر أحفادها

على كرسيّها تصلي

رأيتها تمشي، تجلس، تنسدح، تنام

رأيتها سعيدة، متحمسة، مرحة، مزوحة، حزينة، غاضبة

كانت أمي رحمها الله تملكُ عاطفةً وحنانًا مُدهشين، صادقين

كانت تُحبّ إسعاد الناس، السعي في مصالحهم.. المشورة لهم بالخير

كانت تحبّ تجميع الناس، تأليف القلوب، ونشر أجواء السعادة

كانت ترحمُ الكبير، وترحمُ الصغير، وترحمُ الفقير

لدرجةٍ تفوق وصفي لها

كانت أمي رحمها الله تحبّ القوّة، وتحبّ للحياةِ أن تستمر

فقدت أبيها، أمّها، خالتها، ابنة خالتها

ومع هذا كانت لا تحبّ رحمها الله أن تستلم لمشاعر الحزن كثيرًا..وكانت تُدركها العبرات ولحظات الضعف مراتٍ قليلة أمامنا ثم تتصبر وتعودُ للحياة

كانت رحمها الله نظيفة حريصةً على النظافة، في البيت، في الأكل، في اللبس، في كلّ شيء

تحبّ إطعام الطعام، إهداء الهدايا، جبر القلوب ومعاونة المحتاج

كانت رحمها الله تكره الهجر والخِصام، حريصةٌ على أن تبدأ بالسلام لا لضعف، إنما لترقى لمكارمِ الأخلاق عند الله، كانت توصينا دائمًا بأن لا نقطع الكبير، وأن نصلَ الرحم، وأن لا نجعل للشيطانِ طريقًا ونتعوذ بالله منه

وكانت في الوقتِ نفسه عزيزة نفس، تعرفُ تقديرَ الأمور، ووزنها بمقدارها، ودائمًا ما كانت تردد رحمها الله (عزّ نفسك تجدها)

كانت رحمها الله أمًّا حنونة معطاءة، وزوجةً محبّةً مخلصة، وصديقةً مدهشة

كانت شخصًا عظيمًا رحمها الله

كانت حبيبتي، صديقتي، ملاذي من بعد الله

كانت حياتي كلها

اليوم هو الثاني والعشرين من مايو

بالأمسِ يا أمي، بكيتُ كثيرًا..ودعوتُ الله أن يجعل حبّكِ صبرًا في قلبي

دعوتُ الله لك، كان هاجسُ وجودك في القبر لوحدك موجعًا لي

لكنني أسترجعُ بعدها معيّة الله لك، وأدعو

الحياةُ تمضي يا أمي

أعددتُ بالأمس “دغبوس”، وقبل تقديمه صوّرته..

كنتُ أريدُ أن أُريكِ إياه، كما تعوّدت أن أصوّر لك طبخاتي

ماما

أشعرُ بأنّي عاجزةٌ عن الكلام، عاجزةٌ عن وصف شوقي لك

أشعرُ بأنّ قلبي أجوف،خاوٍ..لكنه ممتليءٌ بالألم

أشعرُ بالإنهاكِ من حملِ هذا الوجع، ولا أطيقُ فكاكه

رتبتُ غرفتكِ يا أمي أنا وأختي، أسأل الله أن يجعل كلّ ما استعملناه أو أخرجناه من أشيائك دُعاءً و صدقةً تصلكُ وتنفعك وتُفرحك

صديقاتكِ يا أمي نِعم الصديقات، لا أقدرُ أن أفي عرفاني لهم

دُعائهن يُثلجُ صدري، كلامهنّ يمسحُ على قلبي

رحمكَ الله يا أمي يا مهجة قلبي رحمةً واسعة شاملة ومدّ لكِ في قبرك مدّ بصرك وجعله الله روضة من رياض الجنة يا رب يا رحمن يا كريم

اللهم أبدلها دارًا خيرًا من دارها، وأهلًا خيرًا من أهلها، وأدخلها الجنة، وأعذها من عذاب القبر، ومن عذاب النار

أفاتار molarya
Posted by:molarya

.ig-b- { display: inline-block; } .ig-b- img { visibility: hidden; } .ig-b-:hover { background-position: 0 -60px; } .ig-b-:active { background-position: 0

أضف تعليق